يخدّرون الشعب بـ«القات»
بقلم د. طارق الغزالى حرب ٣١/ ٨/ ٢٠٠٩
أظن أن أغلب القراء يعرفون تمام المعرفة ما هو «القات».. ذلك النبات الذى تزخر به أرض اليمن بالذات، يمضع وريقاته ويخزنها فى أفواههم معظم أهله منذ أزمنة بعيدة.. يتعاطونه فى الغالب فى منتصف النهار فيصيبهم بحالة فريدة من الخدر والنشوة المصطنعة، يستمرون عليها لساعات طويلة، لا يعملون فيها شيئاً ولا ينتجون. شىء شبيه بتلك الحالة التى تجتاح الشعب المصرى هذه الأيام طوال شهر رمضان خاصة هذا العام!!
حالة من الخدر العام والبلادة والنشوة الزائفة تجدها تقريباً فى كل بيت فى مصر، بعد أن اتحدت واتفقت قوى الثروة والسلطة على دفعه إلى هذه الحالة لأسباب عديدة تحقق مصالح مشتركة لهم. إننى لا أعتقد أن هذا الطوفان من المسلسلات الفارغة والبرامج التافهة الذى اجتاح مختلف الفضائيات المصرية الحكومية والخاصة فى شهر رمضان هذا العام بشكل لم يسبق له مثيل منذ دخول عصر التليفزيون، كان شيئاً عرضياً أو مصادفة، ولكننى ممن يؤمنون بأن هذه الملهاة أو بالأحرى المأساة التى استهدفت عقول الناس وأفكارهم وأوقاتهم كانت شيئاً أحكم تدبيره، بتوجيهات من قوى معينة فى السلطة، وباتفاقيات مباشرة وغير مباشرة مع طبقة «أصحاب الأموال» التى أصبحت تسيطر ليس فقط على الحكم ولكن أيضاً على كل وسائل الإعلام التى تصوغ وتشكل ثقافة الغالبية العظمى من الشعب المصرى التى ترتع فى مراعى الأمية والجهل والكسل العقلى.
ولقد استخدمت تعبير طبقة «أصحاب الأموال» عن قصد واقتناع، وليس كما يسميهم البعض طبقة «رجال الأعمال».. والفارق كبير جداً بين الاثنين.. ففى مصر عدد قليل جداً ممن يمكن أن يطلق عليهم «رجال أعمال» بالمعنى الحقيقى، ولكن الغالبية العظمى من تلك الطبقة من الأثرياء الذين يتحكمون ويتدخلون فى كل شىء فى هذا البلد من السياسة إلى الدين وحتى الرياضة، هم من أصحاب الأموال التى لا يعرف أحد على وجه اليقين من أين أتت أموالهم وأصولهم وكيفية صعودهم على سطح الحياة العامة.
إن أى عاقل على أرض هذا الوطن لابد أنه حزن أشد الحزن على ما آل إليه حال التليفزيون المصرى والفضائيات العامة والخاصة، ولابد للقلة الباقية من أهل النخبة والتى مازالت على عهد الوفاء لشعبها ووطنها، لابد أن تعقد لقاء موسعاً فى صورة ورشة عمل أو مؤتمر وليكن بمكتبة الإسكندرية مثلاً لمناقشة الأمور المهمة الآتية التى تدور فى أذهان المهمومين بمستقبل هذا البلد ومستقبل أجياله القادمة:
أولاً لمصلحة من عرض هذا الكم من الغثاء الدرامى المسمى المسلسلات فى شهر رمضان وهذا الكم من البرامج التافهة التى لا تضيف شيئاً إلى المشاهدين المخدرين الجالسين أمام أجهزة التليفزيون؟ وهل من أجل ترويج بضائع أصحاب الأموال بالإعلانات الخادعة والوهمية يمكن أن يهون كل شىء؟ هل المطلوب أن يجلس المواطن المصرى المخدر أمام التليفزيون طوال الليل والنهار فلا يجد الوقت لكى يقرأ أو يتثقف أو يفكر أو حتى ليأخذ الراحة الكافية ليؤدى عمله جيداً؟
لقد قرر المجلس الثقافى البريطانى فى هذا الشهر الكريم.. شهر القرآن الذى كانت أولى كلماته «اقرأ».. قرر المجلس إغلاق مكتبته التى ظلت أكثر من سبعين عاماً مركز إشعاع علم وتعليم بعد أن لوحظ أن عدد من يتردد عليها للقراءة لا يتجاوز اثنين أو ثلاثة فى اليوم، ولا أحد يستعير كتاباً!! هل هذا هو الهدف النهائى؟ وأعنى به تسطيح العقول وشل قدرتها على التفكير والتدبير، وهل يتصور النظام أنه بتوفير هذا «القات الإعلامى» وما ينجم عنه من حالة الخدر وشبه الغيبوبة يمكن أن يمرر ما شاء من مشروعات وترتيبات تجرى فى الظلام من أجل استمرار سيطرة أصحاب الأموال على مقدرات الشعب ونظام حكمه؟
ثانياً: ما هو بالتحديد دور «رجال الأموال» فى هذا المخطط الجهنمى ومن هم المستفيدون منه، وكم يحصلون من أموال باهظة نظير ذلك، وكيف تأتى هذه الأموال فى النهاية من جيوب المواطنين المخدرين؟ لقد رأيت فى أحد البرامج السخيفة التى تقدم على القناة الأولى مقدمة البرنامج تقول لضيفها فى «القصر» رجل المال الشهير وأحد أقطاب الحزب الحاكم ومجلس الشعب «نريد إعلانات من شركاتك لهذا البرنامج».. تقولها هكذا علناً وكأنها تستظرف معه ثم تضيف على الهواء وبلا حياء «ولا تنسانا».. تقصد نفسها والضيف الآخر الممثل الكبير المشهور الذى ظهر الامتعاض على وجهه من الموقف!!
ثالثاً: كيف ضعفت وخضعت نخبة الشعب المصرى كله تقريباً من المثقفين والمبدعين والفنانين أمام سلطان المال فرضوا بالمشاركة فى هذه العملية المتعمدة لاستغلال الشهر الكريم أسوأ استغلال ووافقوا على عرض منتجاتهم الثقافية فى هذه السوق العشوائية الحافلة بكل ما هو فاسد ومشوش ومضروب؟!! لا عذر لكم يا سادة ولعل الحساب، يوم يفيق هذا الشعب من غيبوبته، يكون قريباً.
الإثنين أغسطس 31, 2009 2:51 am
